Saturday, October 25, 2008

شيخ الجميزة





(0)
عندما تتوسط الشمس السماء ...
تخف طرقات المارة على الطرقات ...
ويصبح ما تحت صهد الشمس مرتعا لما لا نملك له اسما ...
يدب النشاط في الدور المهجورة ونصف المهدمة ...
ويصبح ظل أشجار الجميز محرما على البشر .

(1)

زاحفة نحو منتصف السماء تواصل الشمس اكمال مراسم يومه الذي قارب على الانتهاء .. تتحول حبات عرقه الى اللون الرمادي عندما تختلط بتراب وجهه ، بعض ضربات الفأس في التربة المتشققة وينتهي يومه لتلتقط أصابعه الخشنة بعض نقود تبقيه حيا حتى يومه التالي .
تعود على غربته وسط أهل القرية ، فهو يعلم أن من يترك بلدته ويرحل لا يطلب الألفة في مكان آخر .. تتسارع خطواته وسط طريق تتصاعد من أتربته التمرد على صفعات الشمس ، حتى يصل الى الجميزة .. مهجورة مثله .. مرهوبة من أهل القرية كما يتمنى لنفسه .. تتصاعد رهبتها في النفوس كلما انتصف النهار ، يتمدد بجسده الضخم في ظلها متوحدا بتراب أسفلها .

(00)

عندما تتوسط الشمس السماء...
تندحر سيادة البشر وتتراجع سيطرتهم الى ما خلف أبواب دورهم المغلقة ...
تتثاقل جفون كلاب القرية ...
تنكمش على نفسها لتنام ...
تزحف الثعابين خارجة من شقوق جدران الدور نصف المهدمة...
تعود الأرض ملكا مستباحا لها ...

(2)

تشرد نظراته تائهة في تجاعيد جزعها الضخم .. بين غياهب فروعها .. مترابطة أفكاره أول الأمر.. ما تلبث أن تنحل فكرة تلو أخرى لتنطلق الى حيث لايعلم ..برهة وتصبح رأسه خالية من كل شىء .. يبصر الهواء بأثناء انسيابه بين تجاعيد الجزع والتفافه حول أوراق الجميزة الصفراء .. يرقب الضوء يخلق أطواقا حلزونية حول الهواء .. تعود اليه أفكاره فكرة تلو أخرى دون ما كان يربطها الى بعضها البعض..يبذل جهده في تتبع تموج الأفكار بين ثنايا عقله .. يتثاقل جفنيه فيهمل أفكاره متتبعا ضوء عينيه يذهب الى حيث الظلام .

(3)

مع نقيق الضفادع يعلن الغروب سطوته على البلدة .. ومع خطوات فاطمة المتعثرة وسط طرقات القرية الضيقة وطرقها المتوتر لأبواب الدور .. يعلم الجميع أن خليل لم يعد الى داره منذ الظهيرة .. تضطرب صدورهم لكلماتها اللامترابطة عندما تذكر عادته بالتقييل في ظل الجميزة .
يكتمل الغروب ليخرج ما حول البلدة عن نطاق ادراكها المحسوس .. تخرج الكلوبات بضوئها الأبيض المشرب برائحة الموت، يلوذ به بعض الرجال في بحثهم عن خليل وسط الحقول..هروبا من نظرات زوجته المستغيثة التي لم تكن لتحركهم لولا نظرات زوجاتهم المؤنبة.
بين الحقول تتوغل أقدامهم .. تذهب بهم خطواتهم بعيدا عن الجميزة .. بعض الوقت وتعود أضواء الكلوبات الجنائزية لتنشر أشباحا بيضاء وسط الطرقات ليعلن أحدهم في صوت خافت: خليل أخذه شيخ الجميزة.
(000)

وسط سكون الليل تنتصب عملاقة على حافة الترعة ...بجزعها الضخم وأفرعها المتداخلة...بين غياهب أوراقها الصفراء يقبع مرتعا خصبا من العوالم التي تحتويهاداخلها...على أعلى فروعها يقف شاردا بنظراته الى ضوء النجوم الخافت ...تقبض أصابعه على شفرة حادة يختن بها ثمار الجميز.
(4)

لم تعرف القرية من هو أطول عمرا من خليل.. يقترب من عامه المائة.. صموت كما كان دائما.. مازالت رهبته تسري في نفوس أحفاد من كانوا يرهبونه كهلا.. تغضنت بشرته ولكن عينيه مازالتا تحملان بريقهما .. يمارس عادته التي رحل كل من شهدوا بدايتها .
يتحول الشيخ خليل ومرافقته لشيخ الجميزة الى أسطورة من أساطير السمر الليلي ..يتهامسون عن طول عمره الذي لم تشهد القرية له مثيلا .. صلابته وصمته الدائم..داره الطينية الضخمة التي تتنافر مع ما حولها من منازل أهل القرية الحجرية.

(5)

ينهي الشيخ خليل آخر رشفاته من كوب الشاي بأثناء اتكائه على المصطبة المجاورة لداره ، يلتفت ليرقب حفيده الذي قارب الأربعين آتيا متمتما ببضع كلمات يجهد في أن يجد بينها رابطا فيفشل ، يحاول النهوض فلا يجد بدا من الاتكاء على كتفه.. يستقبل اتكائته في رهبة .. لا تأتيه جرأة مد يده ليستند اليها جده فيكتفي بترك جسده له ليتكأ عليه .
على الفراش يرقد زائغ النظرات يلتف حوله أحفاده ومن بقي من أبنائه ، بصعوبة يدركون أن الشيخ خليل يحتضر ، يتجه بنظرته الى أحد أحفاده فينحني عليه ينصت الى ما قد يقول ..يتحول بنظرته الى الجميع فيدركون أنه يريده هو وحده .
- لا تهدموا الدار .. اتركوها كما هي .
ينطق بها في حزم برغم ضعف نبرات صوته ..
يهز الحفيد رأسه في سرعة قائلا : سنفعل يا جدي .. لن نهدمها .
تطول لحظات الصمت قبل أن يتغلب على تردده ويتجه بنظراته الى الشيخ خليل لتخرج الكلمات من حلقه تصحبها بحة خشية ما زالت تسري في نفسه: جدي ...
يحاول أن يميل يميل برأسه اليه فيتغلب عليه الوهن فيكتفي بالنظر.
- هل حقا كنت رفيقا لشيخ الجميزة ؟
يتلاعب شبح ابتسامة منهكة على وجهه المتغضن ويتمتم بصوت خافت :
بل كنت رفيقا لها


من المجموعة القصصية


(مكتوب على الحافة)


وليد خطاب



Wednesday, October 15, 2008

الطاحونة


عالم صغير.. كنت أظن أني مالكه..أيام ويسلب مني بعضه .. أعوام ويسلب مني كله.. أما الآن فأنا ملك متوج علي مملكة كنت أظنها ضخمه.. تترامي أطرافها من الإسطبل يسارا حتى الطاحونة وما يحيط بها من نخيل وما أمامها من حقول.. أخلق من التماثيل الطينية محاربين وعذارى وشياطين.. لا أرى في تلك المساحات الشاسعة من الحقول إلا مصدر للطمي الذي أصنع منه مملكتي.. ولا في الخيول التي تملأ الإسطبل إلا مصدرا لأصوات تستثير خيالي .. حتى عطوه لم يسلم من استبداد خيالي.. كنت أراه والطاحونة حدثين مترابطين .. أجلس منزويا بجوار باب الطاحونة المتهالك أرقب كفيه المعروقين يقبضان علي تلك اليد الخشبية الضخمة..
يدور.. ويدور.. ويدور .. بلا كلل أو ملل ..
يضطرب عالمي الصغير وتتماوج أطرافه حين يصبح هذا الرجل جزء منه .. بقامته العملاقة.. وشاربه الضخم المصفف في عناية وجلبابه المهندم الناصع البياض .. كنت أراه متنافرا مع هذا العالم بأتربته وطميه .. وبقايا الدقيق المتناثرة في أرجاء الطاحونة .. وملابس عطوه المهترئه ووجهه القمحي المشرب ببقع الدقيق البيضاء .. أشعر في هذه الفوضى بجمال داخلي لم يكن يكدره سوي هذا الذي الذي أناديه عمي .. لم أكن أدرك لهذه الكلمة ما تعارف عليه من حولي من معاني القرب والرحمة .
كنت أرى فيه وعطوه رمزين متضادين .. أحدهما عالمي الصغير والآخر رمز لكل ما يكدر تناغم مملكتي..



أجلس منكمشا خلف برميل الدقيق العملاق.. أقوم اليوم بواحدة من مغامراتي .. أكثر ما يستثير تعجبي هم هؤلاء الكبار وقد رفع عن كاهلهم تسلط وتحكم من حولهم.. كيف لا يتفننون في هذه المغامرات وهم آمنون من البطش والعقاب ..
تري هل أصبح مثلهم يوما ما .. ؟!
أخرج تماثيلي الطينية في حرص .. أمد يدي إلي أحد أجولة الدقيق.. أقبض علي بعضه وأضعه أمامي .. أنهمك في وضع طبقه من الدقيق علي التماثيل.. لترتدي تماثيلي الطينية رداء دقيقي ناصع البياض .
أفيق من مناجاتي لتماثيلي علي ذلك التماوج الذي يكتنف عالمي لأدرك أن عمي قد دخل إلي الطاحونة ..
أنكمش حتى يأخذ جسدي حيز أصغر من الفراغ .. يتناهي إلي صوته المرتفع ملقيا الأوامر إلي عطوه برفع بعض أجولة القمح من هنا ونقل بعض أجولة الدقيق الي هناك ، ما يقرب الساعة من الزمن وكانت الطاحونة قد حدث لها مجموعة من التباديل والتوافيق غيرت معالمها تماما وتركت عطوه وقد برزت عروق عنقه واختلط عرقه الغزير بالدقيق الذي يلطخ وجهه .
يلقي عطوه بجسده المنهك علي صندوق خشبي متهالك .. يرتفع صوت عمي لينتفض عطوه في وجل متجها الي اليد الخشبية .
يدور بصره في أرجاء الطاحونة .. تستوقف بعض خيوط العنكبوت نظره بعض الوقت .. فيقلب نظره فيها في امتعاض ملتفتا الي براميل الدقيق العملاقة ..
يتجه إليها في ثبات..
أعلم أنه مدركتي ..
فأضع كفي الصغيرة علي تماثيلي وأغمض عيني ...
من مجموعة مكتوب على الحافة
لوليد خطاب