ما أعنيه بالتحديد هو إننا عندما نقرأ فإن ما يهمنا بالأكثر هو مقدار المتعة المتولدة عن ذلك، ولا يشغلنا موضوع المعنى العميق أو ما وراء الشكل كثيرا. وإن كنت أتفق مع ذلك في ضرورة جمال الشكل الظاهري للعمل الفني، ولكن هناك سؤال ما هو تعريف هذا الجمال ، ما هي مظاهره؟
لا توجد عندي إجابة على هذه الأسئلة ، وفي رأيي أنه لا توجد إجابات محددة، حتى وإن حاولنا أن نبني هذه الآراء على أساس التفضيلات الجمالية لجمهور واسع من الناس؛ فهناك دائما من سيخرج عليك بنظرية عن ثقافة وذوق النخبة الذي يميل للتجريد والتأمل وذوق العامة الذي يميل للحسية و المباشرة.
لذلك لكي أحدد كلامي فأقرر أن قوة العمل الأدبي تنبع من شيئين (إحكام البنية والصياغة- والمعنى المختفي وراء النص)وكما قلت من قبل إنني شخصيا لا أستطيع أن أدعي أني حكم عدل في أي من تلكما النقطتين.. لذلك فكل ما أستطيع القيام به في أي من المقالات القادمة أن أتكلم عن ذوقي الشخصي.
عن "الصياغة والمعني" عند "محمد المخزنجي" أتحدث اليوم.
أحب أن أبدأ بداية ناعمة بعض الشيء؛ فأتكلم عن بداية معرفتي بالكاتب.
لم أكن أتذكره عندما وجدت أول مجموعة أشتريها له"أوتار الماء" نظرت للاسم وفكرت "أنا أعرف هذا الشخص، ولكن متى.. أين؟" ثم تذكرت بعد قراءتي مراسل مجلة" العربي" الكويتية الذي يطوف العالم يتأمل ويبدع استطلاعات متفردة.. ذهبت معه إلى الصين لأشاهد "ملاكمة الظلال البطيئة" ومرة "لصلالة"في جنوب عمان لأشاهد الخريف فيهاعلى حافة المحيط الهندي، ومرة صعدنا للتبت لنشاهد عملية إخراج الألم بالصوت.
كل تلك الخبرة المرئية بالإضافة لدراسته وممارسته للطب النفسي. هوايته الأثيرة في التأمل تجعلني أضع كلمة بين كلمتي"الصياغة والمعنى" هي كلمة "العاطفة" وما أعنيه بها هي ترجمة الكلمة الإنجليزية
Passion
وليست العاطفة بمعناها الرومانسي، وإن كان موجودا-بطبيعة الحال- في بعض قصصه.
و"العاطفة" عندي هي مكون رئيسي في أي قصة لأي كاتب، ولا يمكنني إدارجها في مكونات"الصياغة" وكذلك هي لا تدخل في المعنى العميق، بل هي فوق النص ممتزجة به في آن.. هي الموسيقى السارية فيه. نعم تؤثر عليه الصياغة عن طريق اللغة المستخدمة وتكنيك الحكي وإيقاعه، ولكن بالرغم من كل ذلك تبقى شيء من الصعب الإمساك به، والأكثر من ذلك يختلف تلقيها من شخص لآخر اختلافا قد يكون كليا.
عندما ندلف إلى عالم"المخزنجي" فأول ما يواجهنا هي كلمات"الدهشة والتأمل والبساطة" ثم بمزيد من القراءة نتأكد من شيئين"تفرد الصوت ومساحة الكتابة"ولكي لا أطيل في الكلام النظري أبدأ بالأمثلة العملية.
أبدأ بالاختيار من مجموعته "أوتار الماء" وربما هي أشهر مجموعاته لطباعتها في مكتبة الأسرة، وفوزها بجائزة مسابقة "سوايرس".
"تلك الحياة الفاتنة"أول قصص المجموعة وأبلغ مثال لهذا الكلام.
بنية القصة غاية في البساطة هي عبارة عن خواطر في ذهن البطل تدور وهو في طريقه لزوجته الراقدة في المستشفى إثر عملية جراحية ليحضر لها بعض الثياب من البيت.تدور القصة في شكل"مونولوج-ديالوج" يوجه لها خطابه ويستحضرها معه يود أن يقولها لها خواطره وهو يعرف رد فعلها ، استخدم الكاتب تلك التقنية في قصته الرائعة"رجال" من مجموعة"البستان"، ولكن بشكل مختلف قليلا.. المهم أول عنصر نجده واضحا"سهولة البنية"ومعه نكتشف اللغة. واللغة موضوع كبير جدا ومتشعب، ربما لحد لن يصدقه القاريء، ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أتحدث عن لغة هذه القصة تحديدا دون محاولة للحديث عن اللغة عند الكاتب-وهي تستحق حديث مفصل.
يستخدم الكاتب هنا اللغة بوعي من أول جملة من أجل ترسيخ العنصر الخفي في القصة"العاطفة".اللغة مليئة بالتشبيهات وكلمات العاطفة التي تدخلك في الحالة النفسية المرادة.جملة البداية هي"لك أنت أيتها المسالمة أحكي هذه المرة" وبعد ذلك نكتشف أنها غير موجودة ومن هنا ينشأ"المونولوج- الديالوج" الذي تكلمنا عنه، ولكن فلنتأمل اللغة بعد ذلك.
"ويالتجسد الإحساس بغيابك في فراغ البيت. يالتلك الظلال المفعمة بالشجون التي يصنعها شيش النوافذ التي تركتها مغلقة. يالجفاف الأكواب والحوض وصمت البيت دونك..؟أما أشياؤك الخاصة فإنني لم أكن أتخيل أن تكون الأشياء قادرة على الإيحاء إلى هذا الحد العاصر للقلوب"
كل هذه العاطفة والشجن جديرين بالمدرسة الرومانسية القديمة باتكاءها على اللغة وإثارة العاطفة والإحساس بالشجن، وأعتقد أننا كلنا نذكر"صخرة الملتقى"، ولكن هنا الموضوع يختلف.. ففي الفقرة التالية مباشرة يصل لهدفه"فماذا لو أنك ذهبت وتركت لي كل هذه الأشياء التي تشع نظافة والتي نامت مطوية ومرتبة برهافة ودقة تحت أنامالك. الموت شيء مرعب، ليس في حد ذاته، ولكن بما يتركه للأحياء من بقايا حياة الراحلين " هذا ما كنت أقصده"التأمل والدهشة"هو استفاد من الرومانسية بتوحيد مشاعرك معه في تلك اللحظة وأوقفك معه داخل الشقة تتأملها ثم أمام الدولاب للتتخيل شكل المناشف والثياب المرتبة وتتأملها معه ثم يقفز بك من التأمل للحظة الاكتشاف المدهش.
وما إن نكمل باقي القصة حتى نعثر على باقي العناصر التي تكلمنا عنها"تفرد الصوت ومساحة الكتابة"فهو يخرج بعد ذلك من الشقة. يركب الميكروباص الذي يمر من أمام السفارة المكسيكية. يصف الشارع ومبنى السفارة برقة المتأمل المستمتع بالجمال ولا ينسى ديالوجه معها"أنت تحبين ذلك الشارع من شوارع المعادي".ثم يلقي مفاجأة النهاية التي يحددها بالـ"الرؤية" وليست الـ"الرؤيا" الأولى بمعنى المشاهدة والثانية بمعنى الحلم المستقبلي.
يحكي قصة القط الذي كان في الشارع يلاعب أحد الفراشات فدهسته عجلات الميكروباص المسرع. هنا يشاهد القط وهو يصير أثنين، أحدهما يهرب لحديقة السفارة والآخر تدهسه عجلات السيارة.
يصل لأعلى درجات العاطفة حين يقول"أعرف يا سكني أن أحدا لن يصدقني مثلك. وأعرف أن تصديقك لي ليس مماشاة مجنون تحبينه، لكنه تصديق شريكك في الإيمان بأن الكون من حولنا مليء بالمدهشات التي لم تعرف قوانينها فنسميها"معجزات"أو "خوارق". وأعرف أنك طيبة إلى درجة الفرح بكل معجزة شجية"ولكنه في نفس الوقت يكون قد أدخلك في "منطقته في الكتابة"تلك المنطقة المتمردة على غرور العلوم التطبيقية وادعاؤها بالإحاطة بكل شيء علما. منطقة التمرد على قسوة العالم وتبلد المشاعر. فيعطيها تفسيرين، كلاهما أجمل من الآخر ويوضحان الكاتب تماما.
"بقوانين عالمنا المحسوس، يا سكني، اندفعت القطة فدهستها عجلات السيارة، لكنها بحسابات الروح وبما كانت فيه من فرح اللعب، ثم مواجهة المباغتة الخئون للخطر الداهم، قفزت قفزة الحياة في وجه الموت.. فنجت "
هنا الميكروباص يمثل قسوة ذلك العالم في مواجهة القط الضعيف. المواجهة محسومة مسبقا، ولكن بحسابات الروح نحن لا نريد أن يموت القط.. لا نريد أن تموت زوجته الحبيبة أمام المرض الداهم.. لا نحب أن تدهس الحياة هؤلاء الناس الطيبين الذين نحبهم-كما يقول في نهاية القصة، فيوجد لهم مخرجا يناسب الحالة التي خلقها من أول كلمة في القصة" لك أنت أيتها المسالمة" هو يتكلم عن هؤلاء الغير مسلحين في معركتهم مع الحياة، ولكن قد يكون التعاطف غير كافي لتفسير الموقف فيضع تفسير آخر يمنطق القصة، وفي نفس الوقت يدخلها في مساحته الكتابية الأهم"التمرد على"غرور العلم"ويستخدم في ذلك العلم أيضا فيقول
"ولو شئت تفسيرا آخر، لحدثتك في ضوء نسيبة الزمان ودفء الراصد، فبينما كنت أنا الدافيء بكل ما يعتلج داخلي من تحنن عليك، وحيث أن الزمن يتلكأ أمام راصد دافيء، فقد لمحت اللحظتين معا. نعم يا سكني، لمحت اللحظتين، بل لمحت لحظة النجاة قبل الموت.. وهذا جائز عندما تبرق أذهاننا بسرعة تفوق سرعة الضوء، فنرى العلل قبل معلولاتها.. نرى النتائج قبل الأسباب"
هو هنا لا يستخدم النسبية فقط بل سنجد مبدأ عدم التأكد لهايزنبرج موجود بقوة -وهو من أهم مباديء نظرية الكم-فهو المبدأ الذي يتيح للجزيئات أن توجد في مكانين في آن واحد في غياب الراصد، وكذلك هو المبدأ الذي ألغى فكرة"السببية" التي بني عليها العلم الحديث، السبيبة تقول أنه إذا وجد جسم في النقطة "س" وعلمت سرعته والعوامل المؤثرة عليه، وعند عدم تدخل قوى خارجية، فإننا يمكننا التنبؤ بميعاد وصوله للنقطة"ص" هذا المبدأ ألغى تلك الفكرة ببساطة لأننا لا نعرف أين الجزيء بالضبط.بالطبع "هايزنبرج"كان يتكلم عن الجزيئات الذرية وما دونها، ولكن أتى أعتراض مشهور من عالم كبير هو "شرودنجر" بأن قال بما إن الكرات والقطط والبشر تتكون من نفس هذه الجزيئات، فلماذا لا نجد هذا الكلام صحيحا في حالتها؟ وضرب مثالا شهيرا عرف بـ"قطة شرودنجر" وهو ما رُدَ عليه بعدها بموضوع التداخل في حركة الجزيئات أو "التآثر"أو "الشواش". المهم لست بصدد التفصيل العلمي في تلك النقطة، ولكن عندما وجدت هذه القصة انتابني فرحة غير عادية بهذا المزج بين العاطفة والعلم والبساطة والتمرد على الواقع والبحث عن ثقوب للإفلات منه.. يؤمن الكاتب وأؤمن أنا أنها موجودة.
كل هذا المزيج صنع تفرد الصوت الخاص به.. فهو يمزج كل هذا ويسيطر عليه ويوجهه حيث يشاء ليصل لنقطة النهاية
"يا سكني، كثير من هؤلاء الناس الذين نراهم يمضون من حولنا في الحياة، دهستهم الحياة من قبل، مرة أومرات. لكنهم انتفضوا ليواصلوا المسير، فالحياة طيبة برغم كل شيء، وبرغم أنها في مثل تلك الحالات تغدو مثقلة بذكرى اللحظات الأليمة.. تغدو مفعمة بالشجن.. والشجن حزن جليل.. والجلال أعلى مراتب الفتنة.. يا سكني" لاحظ معي كم مرة تكررت كلمة "الحياة" هي لم تتكرر اعتباطا، فلكلمات هنا موزونة بميزان الذهب.. هنا هو يتكلم في جهتين فمن ناحية هو يبعث الأمل في نفس زوجته المتألمة التي انتزعوا رحمها توا وكانت على شفا الموت.يقول لها أنها ستقوم وتواصل المسير وإن بقيت تلك الذكرى الأليمة. يقول لها أن ذلك الشجن ليس عيبا بل هو أعلى مراتب الفتنة.. وهنا نفهم سر روعة ذلك النداء الذي يخاطبها به منذ بداية القصة ويكرره"يا سكني" حيث يقول في أول فقرات القصة"وأنك لم تكوني إلا قدرا محسوبا بدقة ليناسبني" وفي نهايتها توحد العاطفة بينهما عن طريق هذا النداء، وفي نفس الوقت الخطاب يتكلم عن الآخرين الذين أنت واحد منهم، حين تتذكر المرات التي دهستك فيها الحياة فتتوحد معهما في الحالة.
ونلتقي مع نفس الكاتب في المرة القادمة إن كان في العمر بقية.
لا توجد عندي إجابة على هذه الأسئلة ، وفي رأيي أنه لا توجد إجابات محددة، حتى وإن حاولنا أن نبني هذه الآراء على أساس التفضيلات الجمالية لجمهور واسع من الناس؛ فهناك دائما من سيخرج عليك بنظرية عن ثقافة وذوق النخبة الذي يميل للتجريد والتأمل وذوق العامة الذي يميل للحسية و المباشرة.
لذلك لكي أحدد كلامي فأقرر أن قوة العمل الأدبي تنبع من شيئين (إحكام البنية والصياغة- والمعنى المختفي وراء النص)وكما قلت من قبل إنني شخصيا لا أستطيع أن أدعي أني حكم عدل في أي من تلكما النقطتين.. لذلك فكل ما أستطيع القيام به في أي من المقالات القادمة أن أتكلم عن ذوقي الشخصي.
عن "الصياغة والمعني" عند "محمد المخزنجي" أتحدث اليوم.
أحب أن أبدأ بداية ناعمة بعض الشيء؛ فأتكلم عن بداية معرفتي بالكاتب.
لم أكن أتذكره عندما وجدت أول مجموعة أشتريها له"أوتار الماء" نظرت للاسم وفكرت "أنا أعرف هذا الشخص، ولكن متى.. أين؟" ثم تذكرت بعد قراءتي مراسل مجلة" العربي" الكويتية الذي يطوف العالم يتأمل ويبدع استطلاعات متفردة.. ذهبت معه إلى الصين لأشاهد "ملاكمة الظلال البطيئة" ومرة "لصلالة"في جنوب عمان لأشاهد الخريف فيهاعلى حافة المحيط الهندي، ومرة صعدنا للتبت لنشاهد عملية إخراج الألم بالصوت.
كل تلك الخبرة المرئية بالإضافة لدراسته وممارسته للطب النفسي. هوايته الأثيرة في التأمل تجعلني أضع كلمة بين كلمتي"الصياغة والمعنى" هي كلمة "العاطفة" وما أعنيه بها هي ترجمة الكلمة الإنجليزية
Passion
وليست العاطفة بمعناها الرومانسي، وإن كان موجودا-بطبيعة الحال- في بعض قصصه.
و"العاطفة" عندي هي مكون رئيسي في أي قصة لأي كاتب، ولا يمكنني إدارجها في مكونات"الصياغة" وكذلك هي لا تدخل في المعنى العميق، بل هي فوق النص ممتزجة به في آن.. هي الموسيقى السارية فيه. نعم تؤثر عليه الصياغة عن طريق اللغة المستخدمة وتكنيك الحكي وإيقاعه، ولكن بالرغم من كل ذلك تبقى شيء من الصعب الإمساك به، والأكثر من ذلك يختلف تلقيها من شخص لآخر اختلافا قد يكون كليا.
عندما ندلف إلى عالم"المخزنجي" فأول ما يواجهنا هي كلمات"الدهشة والتأمل والبساطة" ثم بمزيد من القراءة نتأكد من شيئين"تفرد الصوت ومساحة الكتابة"ولكي لا أطيل في الكلام النظري أبدأ بالأمثلة العملية.
أبدأ بالاختيار من مجموعته "أوتار الماء" وربما هي أشهر مجموعاته لطباعتها في مكتبة الأسرة، وفوزها بجائزة مسابقة "سوايرس".
"تلك الحياة الفاتنة"أول قصص المجموعة وأبلغ مثال لهذا الكلام.
بنية القصة غاية في البساطة هي عبارة عن خواطر في ذهن البطل تدور وهو في طريقه لزوجته الراقدة في المستشفى إثر عملية جراحية ليحضر لها بعض الثياب من البيت.تدور القصة في شكل"مونولوج-ديالوج" يوجه لها خطابه ويستحضرها معه يود أن يقولها لها خواطره وهو يعرف رد فعلها ، استخدم الكاتب تلك التقنية في قصته الرائعة"رجال" من مجموعة"البستان"، ولكن بشكل مختلف قليلا.. المهم أول عنصر نجده واضحا"سهولة البنية"ومعه نكتشف اللغة. واللغة موضوع كبير جدا ومتشعب، ربما لحد لن يصدقه القاريء، ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أتحدث عن لغة هذه القصة تحديدا دون محاولة للحديث عن اللغة عند الكاتب-وهي تستحق حديث مفصل.
يستخدم الكاتب هنا اللغة بوعي من أول جملة من أجل ترسيخ العنصر الخفي في القصة"العاطفة".اللغة مليئة بالتشبيهات وكلمات العاطفة التي تدخلك في الحالة النفسية المرادة.جملة البداية هي"لك أنت أيتها المسالمة أحكي هذه المرة" وبعد ذلك نكتشف أنها غير موجودة ومن هنا ينشأ"المونولوج- الديالوج" الذي تكلمنا عنه، ولكن فلنتأمل اللغة بعد ذلك.
"ويالتجسد الإحساس بغيابك في فراغ البيت. يالتلك الظلال المفعمة بالشجون التي يصنعها شيش النوافذ التي تركتها مغلقة. يالجفاف الأكواب والحوض وصمت البيت دونك..؟أما أشياؤك الخاصة فإنني لم أكن أتخيل أن تكون الأشياء قادرة على الإيحاء إلى هذا الحد العاصر للقلوب"
كل هذه العاطفة والشجن جديرين بالمدرسة الرومانسية القديمة باتكاءها على اللغة وإثارة العاطفة والإحساس بالشجن، وأعتقد أننا كلنا نذكر"صخرة الملتقى"، ولكن هنا الموضوع يختلف.. ففي الفقرة التالية مباشرة يصل لهدفه"فماذا لو أنك ذهبت وتركت لي كل هذه الأشياء التي تشع نظافة والتي نامت مطوية ومرتبة برهافة ودقة تحت أنامالك. الموت شيء مرعب، ليس في حد ذاته، ولكن بما يتركه للأحياء من بقايا حياة الراحلين " هذا ما كنت أقصده"التأمل والدهشة"هو استفاد من الرومانسية بتوحيد مشاعرك معه في تلك اللحظة وأوقفك معه داخل الشقة تتأملها ثم أمام الدولاب للتتخيل شكل المناشف والثياب المرتبة وتتأملها معه ثم يقفز بك من التأمل للحظة الاكتشاف المدهش.
وما إن نكمل باقي القصة حتى نعثر على باقي العناصر التي تكلمنا عنها"تفرد الصوت ومساحة الكتابة"فهو يخرج بعد ذلك من الشقة. يركب الميكروباص الذي يمر من أمام السفارة المكسيكية. يصف الشارع ومبنى السفارة برقة المتأمل المستمتع بالجمال ولا ينسى ديالوجه معها"أنت تحبين ذلك الشارع من شوارع المعادي".ثم يلقي مفاجأة النهاية التي يحددها بالـ"الرؤية" وليست الـ"الرؤيا" الأولى بمعنى المشاهدة والثانية بمعنى الحلم المستقبلي.
يحكي قصة القط الذي كان في الشارع يلاعب أحد الفراشات فدهسته عجلات الميكروباص المسرع. هنا يشاهد القط وهو يصير أثنين، أحدهما يهرب لحديقة السفارة والآخر تدهسه عجلات السيارة.
يصل لأعلى درجات العاطفة حين يقول"أعرف يا سكني أن أحدا لن يصدقني مثلك. وأعرف أن تصديقك لي ليس مماشاة مجنون تحبينه، لكنه تصديق شريكك في الإيمان بأن الكون من حولنا مليء بالمدهشات التي لم تعرف قوانينها فنسميها"معجزات"أو "خوارق". وأعرف أنك طيبة إلى درجة الفرح بكل معجزة شجية"ولكنه في نفس الوقت يكون قد أدخلك في "منطقته في الكتابة"تلك المنطقة المتمردة على غرور العلوم التطبيقية وادعاؤها بالإحاطة بكل شيء علما. منطقة التمرد على قسوة العالم وتبلد المشاعر. فيعطيها تفسيرين، كلاهما أجمل من الآخر ويوضحان الكاتب تماما.
"بقوانين عالمنا المحسوس، يا سكني، اندفعت القطة فدهستها عجلات السيارة، لكنها بحسابات الروح وبما كانت فيه من فرح اللعب، ثم مواجهة المباغتة الخئون للخطر الداهم، قفزت قفزة الحياة في وجه الموت.. فنجت "
هنا الميكروباص يمثل قسوة ذلك العالم في مواجهة القط الضعيف. المواجهة محسومة مسبقا، ولكن بحسابات الروح نحن لا نريد أن يموت القط.. لا نريد أن تموت زوجته الحبيبة أمام المرض الداهم.. لا نحب أن تدهس الحياة هؤلاء الناس الطيبين الذين نحبهم-كما يقول في نهاية القصة، فيوجد لهم مخرجا يناسب الحالة التي خلقها من أول كلمة في القصة" لك أنت أيتها المسالمة" هو يتكلم عن هؤلاء الغير مسلحين في معركتهم مع الحياة، ولكن قد يكون التعاطف غير كافي لتفسير الموقف فيضع تفسير آخر يمنطق القصة، وفي نفس الوقت يدخلها في مساحته الكتابية الأهم"التمرد على"غرور العلم"ويستخدم في ذلك العلم أيضا فيقول
"ولو شئت تفسيرا آخر، لحدثتك في ضوء نسيبة الزمان ودفء الراصد، فبينما كنت أنا الدافيء بكل ما يعتلج داخلي من تحنن عليك، وحيث أن الزمن يتلكأ أمام راصد دافيء، فقد لمحت اللحظتين معا. نعم يا سكني، لمحت اللحظتين، بل لمحت لحظة النجاة قبل الموت.. وهذا جائز عندما تبرق أذهاننا بسرعة تفوق سرعة الضوء، فنرى العلل قبل معلولاتها.. نرى النتائج قبل الأسباب"
هو هنا لا يستخدم النسبية فقط بل سنجد مبدأ عدم التأكد لهايزنبرج موجود بقوة -وهو من أهم مباديء نظرية الكم-فهو المبدأ الذي يتيح للجزيئات أن توجد في مكانين في آن واحد في غياب الراصد، وكذلك هو المبدأ الذي ألغى فكرة"السببية" التي بني عليها العلم الحديث، السبيبة تقول أنه إذا وجد جسم في النقطة "س" وعلمت سرعته والعوامل المؤثرة عليه، وعند عدم تدخل قوى خارجية، فإننا يمكننا التنبؤ بميعاد وصوله للنقطة"ص" هذا المبدأ ألغى تلك الفكرة ببساطة لأننا لا نعرف أين الجزيء بالضبط.بالطبع "هايزنبرج"كان يتكلم عن الجزيئات الذرية وما دونها، ولكن أتى أعتراض مشهور من عالم كبير هو "شرودنجر" بأن قال بما إن الكرات والقطط والبشر تتكون من نفس هذه الجزيئات، فلماذا لا نجد هذا الكلام صحيحا في حالتها؟ وضرب مثالا شهيرا عرف بـ"قطة شرودنجر" وهو ما رُدَ عليه بعدها بموضوع التداخل في حركة الجزيئات أو "التآثر"أو "الشواش". المهم لست بصدد التفصيل العلمي في تلك النقطة، ولكن عندما وجدت هذه القصة انتابني فرحة غير عادية بهذا المزج بين العاطفة والعلم والبساطة والتمرد على الواقع والبحث عن ثقوب للإفلات منه.. يؤمن الكاتب وأؤمن أنا أنها موجودة.
كل هذا المزيج صنع تفرد الصوت الخاص به.. فهو يمزج كل هذا ويسيطر عليه ويوجهه حيث يشاء ليصل لنقطة النهاية
"يا سكني، كثير من هؤلاء الناس الذين نراهم يمضون من حولنا في الحياة، دهستهم الحياة من قبل، مرة أومرات. لكنهم انتفضوا ليواصلوا المسير، فالحياة طيبة برغم كل شيء، وبرغم أنها في مثل تلك الحالات تغدو مثقلة بذكرى اللحظات الأليمة.. تغدو مفعمة بالشجن.. والشجن حزن جليل.. والجلال أعلى مراتب الفتنة.. يا سكني" لاحظ معي كم مرة تكررت كلمة "الحياة" هي لم تتكرر اعتباطا، فلكلمات هنا موزونة بميزان الذهب.. هنا هو يتكلم في جهتين فمن ناحية هو يبعث الأمل في نفس زوجته المتألمة التي انتزعوا رحمها توا وكانت على شفا الموت.يقول لها أنها ستقوم وتواصل المسير وإن بقيت تلك الذكرى الأليمة. يقول لها أن ذلك الشجن ليس عيبا بل هو أعلى مراتب الفتنة.. وهنا نفهم سر روعة ذلك النداء الذي يخاطبها به منذ بداية القصة ويكرره"يا سكني" حيث يقول في أول فقرات القصة"وأنك لم تكوني إلا قدرا محسوبا بدقة ليناسبني" وفي نهايتها توحد العاطفة بينهما عن طريق هذا النداء، وفي نفس الوقت الخطاب يتكلم عن الآخرين الذين أنت واحد منهم، حين تتذكر المرات التي دهستك فيها الحياة فتتوحد معهما في الحالة.
ونلتقي مع نفس الكاتب في المرة القادمة إن كان في العمر بقية.