Wednesday, November 5, 2008

همس الريح


ونفضت يدي من الشغل بعدما نطقت بعبارتها المتعجرفة .. اذهب لغسل يديك قبل أن تبدأ العمل.. تركت لها الباب الذي نزعته من إطاره وغادرت .. بعد أن قلت لها أني نجار ولست طباخ تخاف على طعامها من قذارة يديه.
يتثاءبون جميعا زوجة هرمة وسبعة أبناء رجال ونساء وست وعشرون حفيدا لا يجمعهم في حجرة واحدة إلا يوم عيد أو إفطار بأحد أيام رمضان.. ليتمتم الحفيد الذي لم يتجاوز الخامسة بعد: حكيت لنا هذه الحكاية مائة مرة يا جدي..
تغيم نظراته للحظات .. حقا ؟!!.. إذن فلتعلم أني لم أقل لها أني نجار ولست طباخ.. كان كل ما فعلت أني نفضت يدي من العمل .. لملمت عدتي .. وانصرفت صامتا .
*** **** ***
ذهبت كثير من متع الحياة بعد أن قبض على حافة الثمانين بأصابعه النحيلة المهزوزة، فان سألته أيها بقي لشردت عينيه قليلا في تفاصيل وجهك إلا عينيك وتمتم: عندما أجتمع بهم جميعا على طعام..
لن تسأله من هم، ستشعر من طريقة نطقه للكلمات بأنه يتحدث عما لا يليق بك أن تجهله وستفضل ألا تخيب ظنه في فطنتك، قد يستمر جهلك المتواري حتى النهاية.. إلا إذا دعتك صدفة إلى مائدة طعامه يوم عيد أو موسم، حينها وعند جلوسك وسط هذا العدد الضخم من الأبناء والأحفاد ، سينتابك شعور مختلف .. غامض ..ضبابي.. مخبوء في ذاكرتك الموروثة من زمن أسلاف مندثرين.. حين كانت القوة في العدد، والدفيء لا يطلب إلا من أجساد البشر.
يختلس النظرات إلى بناته الخمس ، غريب أن تلحظ الخجل في ابن الثمانين، تسلل البياض إلى رؤوس ثلاثة منهن.. بعد طول اعتياد يستطيع أن يتجاهل الزمن قليلا لينتقي اللحظة التي يفضل أن يراها مرة أخرى ، يراهن وقد عقصت ضفائرهن للخلف واسترسلت على ظهورهن ، ذاهبات معه إلى الري ليلا ، يساعدهن على النزول من على العربة الخشبية ، وينزع عن جسده الجلباب المشرب بطين الأرض ومائها ليعطي الماكينة بعض جرعات الماء قبل أن يديرها .. بتحط ف المكنة ميه ليه يابا؟! .. ينظر إلى صغراهن ويبتسم لدهشة المشاهدة الأولى ويتمتم بصوت يعلم أنها لن تسمعه وسط ضجيج الماكينة : عشان متشرقش .. هاشوف الميه واصلة آخر الأرض ولا لأ ..
يتركهن لوجلهن الخجل من الظهور ويذهب ، دقائق وتشير إحداهن إلى الجانب الآخر من الترعة ، حيث تظهر كتلة من اللهب تبتعد حتى آخر مدى أبصارهن لتقترب ثانية الى حافة الترعة ، تهمس كبراهن للأخريات: أبوشعليلة .
يثبتن للحظات قبل أن تنطلق صرخاتهن الفزعة في نفس اللحظة : يابا .. يستمر ذعرهن طوال ساعات دقائق قضاها هو بعيدا عنهن حتى تصيح أصغرهن: يابا .. يابا يابن الكلب ... مصحوبة بانهمار دموعها.
- بتضحك على ايه ؟! ..
ينزع نظراته عنهن الى طبق الطعام ليكمل ابتسامته قائلا : مفيش.. . أنا قايم أريح ف المندرة شوية ..
يلتفتون إليه باستغراب من رأى أحدهم يبعث دفينا من قبره : المندرة راحت وراحت أيامها مع الدار القديمة يابه ..
يثبت في مكانه للحظات ثم يشيح بيده في ضجر ، متمتما بعدد متلاحق من العبارات لم يلتقطوا أولها فلم يبذلوا جهدا في تتبع آخرها ، ليسود الصمت بعد انصرافه للحظات قبل أن يصلهم صوته عاليا من الغرفة المجاورة مخاطبا زوجته أمهم : لو أبوكي خليل عدا ابقي صحيني .
عندما يخلط أحدهم بين عالمي الأموات والأحياء يوقنون زوال الفاصل.. يقولون أن الميت يظل ضيفا على الأحياء أربعين ليلة حينها.. يكون فيها جثة تمشي على الأرض تودع الأحباب والأماكن ، وتعيد ما انقطع من الود بينها وبين من سبقوها إلى القبر ، هكذا لقنوهم صغارا وتشربت بها نفوسهم كبارا مع كل عزيز يفقد ، لذلك عندما أتى ذكر الشيخ خليل جده ، وتحدث عنه كما لو كان قائما بينهم جزعوا عليه وتذكروا من فقدوا من الأحبة .. لانت العيون بغرغرة الدمع، وسكن التوجس النفوس كلما عوى كلب أو تعالى نهيق حمار أو حتى أذن الديك فجرا.
ومرت الليلة حد تمام الأربعين فهدأ الجزع حتى أدركوا أن الليلة الأربعين قد ذهبت ولكن ما أثار هواجسهم لم يذهب معها ، يستيقظ فجرا كما يفعل منذ أربعين دورة للفصول ليتردد صوته في أرجاء المنزل الساكن أثناء اتجاهه للوضوء : الله .. الله.. الله...
أصبحوا يفزعون من صيحته تلك ليلا .. أصبحت عالية .. مجلجلة.. يتردد صداها في أرجاء المنزل الواسع .. توقظهم فزعين من نومهم .. ليعودوا إليه ضجرين ، بخطواته الهادئة يدخل ليجد الجميع قد اتخذوا أماكنهم على مائدة الإفطار: أخوك متخربش ليه يا إسماعيل ؟! .. مش هاتبطل قساوة ...
يلتفت إسماعيل إلى أخيه في وجوم متمتما بصوت خافت: أبوك عقله خف يا عابد.

****** **** ******
تتذاوب لحظاته ويذهب ملله وضجره حتى ليأنس بهمس الريح تحمل السكينة لتتخلل بها مسامه – يلاحظون جلسته المستكينة الثابتة لساعات دون أن يطرف له جفن – يهيم بعينيه في دروب حواف متصلة من اللحظات فيدرك من غاب عنه بالموت ويرى أبناؤه كل منهم جنينا ورضيعا وطفلا وغلاما وفتى وشابا ورجلا في ذات اللحظة ॥ يرقص قلبه لبسمة فدوى جنينه تتقافز من حولها سعاد وخديجة وشهد وكوثر .. تطفر عينيه بالدموع بعدها بلحظات لبكاء إسماعيل طفلا ممزق الملابس وشكواه من تكالب أطفال الحارة عليه.. تمتلئ نفسه بالرضا عندما ينظر إلى عابد مراقبا نفسه في ذات اللحظة بالركن الأقصى من الغرفة يشكو إلى الله شفقته على إسماعيل من أن يتحمل وحده هم البنات الخمس – لم يجدوا آخر الأمر تجنبا لخلطه ونسيانه أمام الأغراب إلا أن يجنبوه لقياهم ما استطاعوا – يدرك الأذان يتردد آتيا من كل الجهات فلا يدري له مصدرا ، وكلما التقطته خلايا جسده استجاب له – يرقبونه يصلي الظهر حينا ثلاث مرات وحينا خمس وحينا يصلي المغرب مرتين ، وقد يأتي يوم يليه لا يصلي فيه إلا فرضا واحدا – وحين ناجته الظلمة وأخبرته أنها نور خجل مستتر ، وألف التراب ورأى فيه ما رأى ، وتلاشت الألوان وتداخلت لتشكل أثير واحد ، واختلطت دموعه بابتسامته ، علم أن عليه أن يحث الخطو .. ففعل

Saturday, October 25, 2008

شيخ الجميزة





(0)
عندما تتوسط الشمس السماء ...
تخف طرقات المارة على الطرقات ...
ويصبح ما تحت صهد الشمس مرتعا لما لا نملك له اسما ...
يدب النشاط في الدور المهجورة ونصف المهدمة ...
ويصبح ظل أشجار الجميز محرما على البشر .

(1)

زاحفة نحو منتصف السماء تواصل الشمس اكمال مراسم يومه الذي قارب على الانتهاء .. تتحول حبات عرقه الى اللون الرمادي عندما تختلط بتراب وجهه ، بعض ضربات الفأس في التربة المتشققة وينتهي يومه لتلتقط أصابعه الخشنة بعض نقود تبقيه حيا حتى يومه التالي .
تعود على غربته وسط أهل القرية ، فهو يعلم أن من يترك بلدته ويرحل لا يطلب الألفة في مكان آخر .. تتسارع خطواته وسط طريق تتصاعد من أتربته التمرد على صفعات الشمس ، حتى يصل الى الجميزة .. مهجورة مثله .. مرهوبة من أهل القرية كما يتمنى لنفسه .. تتصاعد رهبتها في النفوس كلما انتصف النهار ، يتمدد بجسده الضخم في ظلها متوحدا بتراب أسفلها .

(00)

عندما تتوسط الشمس السماء...
تندحر سيادة البشر وتتراجع سيطرتهم الى ما خلف أبواب دورهم المغلقة ...
تتثاقل جفون كلاب القرية ...
تنكمش على نفسها لتنام ...
تزحف الثعابين خارجة من شقوق جدران الدور نصف المهدمة...
تعود الأرض ملكا مستباحا لها ...

(2)

تشرد نظراته تائهة في تجاعيد جزعها الضخم .. بين غياهب فروعها .. مترابطة أفكاره أول الأمر.. ما تلبث أن تنحل فكرة تلو أخرى لتنطلق الى حيث لايعلم ..برهة وتصبح رأسه خالية من كل شىء .. يبصر الهواء بأثناء انسيابه بين تجاعيد الجزع والتفافه حول أوراق الجميزة الصفراء .. يرقب الضوء يخلق أطواقا حلزونية حول الهواء .. تعود اليه أفكاره فكرة تلو أخرى دون ما كان يربطها الى بعضها البعض..يبذل جهده في تتبع تموج الأفكار بين ثنايا عقله .. يتثاقل جفنيه فيهمل أفكاره متتبعا ضوء عينيه يذهب الى حيث الظلام .

(3)

مع نقيق الضفادع يعلن الغروب سطوته على البلدة .. ومع خطوات فاطمة المتعثرة وسط طرقات القرية الضيقة وطرقها المتوتر لأبواب الدور .. يعلم الجميع أن خليل لم يعد الى داره منذ الظهيرة .. تضطرب صدورهم لكلماتها اللامترابطة عندما تذكر عادته بالتقييل في ظل الجميزة .
يكتمل الغروب ليخرج ما حول البلدة عن نطاق ادراكها المحسوس .. تخرج الكلوبات بضوئها الأبيض المشرب برائحة الموت، يلوذ به بعض الرجال في بحثهم عن خليل وسط الحقول..هروبا من نظرات زوجته المستغيثة التي لم تكن لتحركهم لولا نظرات زوجاتهم المؤنبة.
بين الحقول تتوغل أقدامهم .. تذهب بهم خطواتهم بعيدا عن الجميزة .. بعض الوقت وتعود أضواء الكلوبات الجنائزية لتنشر أشباحا بيضاء وسط الطرقات ليعلن أحدهم في صوت خافت: خليل أخذه شيخ الجميزة.
(000)

وسط سكون الليل تنتصب عملاقة على حافة الترعة ...بجزعها الضخم وأفرعها المتداخلة...بين غياهب أوراقها الصفراء يقبع مرتعا خصبا من العوالم التي تحتويهاداخلها...على أعلى فروعها يقف شاردا بنظراته الى ضوء النجوم الخافت ...تقبض أصابعه على شفرة حادة يختن بها ثمار الجميز.
(4)

لم تعرف القرية من هو أطول عمرا من خليل.. يقترب من عامه المائة.. صموت كما كان دائما.. مازالت رهبته تسري في نفوس أحفاد من كانوا يرهبونه كهلا.. تغضنت بشرته ولكن عينيه مازالتا تحملان بريقهما .. يمارس عادته التي رحل كل من شهدوا بدايتها .
يتحول الشيخ خليل ومرافقته لشيخ الجميزة الى أسطورة من أساطير السمر الليلي ..يتهامسون عن طول عمره الذي لم تشهد القرية له مثيلا .. صلابته وصمته الدائم..داره الطينية الضخمة التي تتنافر مع ما حولها من منازل أهل القرية الحجرية.

(5)

ينهي الشيخ خليل آخر رشفاته من كوب الشاي بأثناء اتكائه على المصطبة المجاورة لداره ، يلتفت ليرقب حفيده الذي قارب الأربعين آتيا متمتما ببضع كلمات يجهد في أن يجد بينها رابطا فيفشل ، يحاول النهوض فلا يجد بدا من الاتكاء على كتفه.. يستقبل اتكائته في رهبة .. لا تأتيه جرأة مد يده ليستند اليها جده فيكتفي بترك جسده له ليتكأ عليه .
على الفراش يرقد زائغ النظرات يلتف حوله أحفاده ومن بقي من أبنائه ، بصعوبة يدركون أن الشيخ خليل يحتضر ، يتجه بنظرته الى أحد أحفاده فينحني عليه ينصت الى ما قد يقول ..يتحول بنظرته الى الجميع فيدركون أنه يريده هو وحده .
- لا تهدموا الدار .. اتركوها كما هي .
ينطق بها في حزم برغم ضعف نبرات صوته ..
يهز الحفيد رأسه في سرعة قائلا : سنفعل يا جدي .. لن نهدمها .
تطول لحظات الصمت قبل أن يتغلب على تردده ويتجه بنظراته الى الشيخ خليل لتخرج الكلمات من حلقه تصحبها بحة خشية ما زالت تسري في نفسه: جدي ...
يحاول أن يميل يميل برأسه اليه فيتغلب عليه الوهن فيكتفي بالنظر.
- هل حقا كنت رفيقا لشيخ الجميزة ؟
يتلاعب شبح ابتسامة منهكة على وجهه المتغضن ويتمتم بصوت خافت :
بل كنت رفيقا لها


من المجموعة القصصية


(مكتوب على الحافة)


وليد خطاب



Wednesday, October 15, 2008

الطاحونة


عالم صغير.. كنت أظن أني مالكه..أيام ويسلب مني بعضه .. أعوام ويسلب مني كله.. أما الآن فأنا ملك متوج علي مملكة كنت أظنها ضخمه.. تترامي أطرافها من الإسطبل يسارا حتى الطاحونة وما يحيط بها من نخيل وما أمامها من حقول.. أخلق من التماثيل الطينية محاربين وعذارى وشياطين.. لا أرى في تلك المساحات الشاسعة من الحقول إلا مصدر للطمي الذي أصنع منه مملكتي.. ولا في الخيول التي تملأ الإسطبل إلا مصدرا لأصوات تستثير خيالي .. حتى عطوه لم يسلم من استبداد خيالي.. كنت أراه والطاحونة حدثين مترابطين .. أجلس منزويا بجوار باب الطاحونة المتهالك أرقب كفيه المعروقين يقبضان علي تلك اليد الخشبية الضخمة..
يدور.. ويدور.. ويدور .. بلا كلل أو ملل ..
يضطرب عالمي الصغير وتتماوج أطرافه حين يصبح هذا الرجل جزء منه .. بقامته العملاقة.. وشاربه الضخم المصفف في عناية وجلبابه المهندم الناصع البياض .. كنت أراه متنافرا مع هذا العالم بأتربته وطميه .. وبقايا الدقيق المتناثرة في أرجاء الطاحونة .. وملابس عطوه المهترئه ووجهه القمحي المشرب ببقع الدقيق البيضاء .. أشعر في هذه الفوضى بجمال داخلي لم يكن يكدره سوي هذا الذي الذي أناديه عمي .. لم أكن أدرك لهذه الكلمة ما تعارف عليه من حولي من معاني القرب والرحمة .
كنت أرى فيه وعطوه رمزين متضادين .. أحدهما عالمي الصغير والآخر رمز لكل ما يكدر تناغم مملكتي..



أجلس منكمشا خلف برميل الدقيق العملاق.. أقوم اليوم بواحدة من مغامراتي .. أكثر ما يستثير تعجبي هم هؤلاء الكبار وقد رفع عن كاهلهم تسلط وتحكم من حولهم.. كيف لا يتفننون في هذه المغامرات وهم آمنون من البطش والعقاب ..
تري هل أصبح مثلهم يوما ما .. ؟!
أخرج تماثيلي الطينية في حرص .. أمد يدي إلي أحد أجولة الدقيق.. أقبض علي بعضه وأضعه أمامي .. أنهمك في وضع طبقه من الدقيق علي التماثيل.. لترتدي تماثيلي الطينية رداء دقيقي ناصع البياض .
أفيق من مناجاتي لتماثيلي علي ذلك التماوج الذي يكتنف عالمي لأدرك أن عمي قد دخل إلي الطاحونة ..
أنكمش حتى يأخذ جسدي حيز أصغر من الفراغ .. يتناهي إلي صوته المرتفع ملقيا الأوامر إلي عطوه برفع بعض أجولة القمح من هنا ونقل بعض أجولة الدقيق الي هناك ، ما يقرب الساعة من الزمن وكانت الطاحونة قد حدث لها مجموعة من التباديل والتوافيق غيرت معالمها تماما وتركت عطوه وقد برزت عروق عنقه واختلط عرقه الغزير بالدقيق الذي يلطخ وجهه .
يلقي عطوه بجسده المنهك علي صندوق خشبي متهالك .. يرتفع صوت عمي لينتفض عطوه في وجل متجها الي اليد الخشبية .
يدور بصره في أرجاء الطاحونة .. تستوقف بعض خيوط العنكبوت نظره بعض الوقت .. فيقلب نظره فيها في امتعاض ملتفتا الي براميل الدقيق العملاقة ..
يتجه إليها في ثبات..
أعلم أنه مدركتي ..
فأضع كفي الصغيرة علي تماثيلي وأغمض عيني ...
من مجموعة مكتوب على الحافة
لوليد خطاب

Saturday, March 15, 2008

مكتوب على الحافة

إعلان متأخر


الآن بالأسواق

Monday, November 12, 2007

حديث وليد خطاب

لم يكن وضع صورته الشخصية في بداية هذه التدوينة هي الباب الصحيح للدخول إلى جنته الممتدة بطول مجموعة أدبية في طريقها للنشر ضمن الاصدار الاول لتجمع ورقة وقلم ... فملامحه ذات الثلاثة وعشرين سنة ..ونظرته المسافرة إلى هناك ..لن تشي بما يخفيه خيال وليد خطاب من حكايا لها كعم الحنين .

هذا لم يمنع من قطف احدى الزهرات هنا ...وادرجت تعليقي المتواضع عليها ...نشتم معا ريح جنته


حديث النبذ

(1)

أول لحظات الإنفصال ..

ما كانت تعني لهما ...

سوى آخر إنقطاع للرؤية ..آخر بسمة تخلق على شفاههم بصدق .. أو آخر دمعة تمحو قسوة من لا يدركون ..

بحسم .. ينزعون جسديهما المستسلمين من عربة الإسعاف ... بحسم يضعونهما على الأسرة ذات العجلات الحديدية .. بحسم تتواطؤ الأسرة مع قادتها وتنساب في خشونة على بلاط الممرات المشبعة برائحة أرواح من ماتوا هنا ...

يشير الطبيب المتمرس على إبداء العجلة إلى قواد التوابيت المكشوفة أن يدخلوهما في غرفتي الرعاية المتجاورتين ..ليشرع في ممارسة طقوس الإنقاذ .. يستعيد في سرعة ما تراكم في عقله من صفحات المراجع الصفراء عن الغيبوبة .. نقص أكسجين .. نزيف .. ورم .. صرع .. تسمم.. يجري فحوصاته الأولية متحسسا ما قد يكون سببا للعطب الذي أوقف الآلة الحية ..

" ايها الطبيب .. الفتاة تعاني من انهيار هناك .. في الغرفة المجاورة " يصرخ بها الممرض ..فيسارع الطبيب للغرفة الأخرى .. هبوط حاد وكأن القلب قد قرر الكف عن الدعم .. وإشارات مخ كهربية مضطربة كانت كافية ليتملك عجز نقص الخبرة كل حواسه ..

" نفس الأعراض على الشاب .. " يقولها الممرض أثناء إندفاعه إلى الغرفة فيقتنصها الطبيب لينتزع نفسه من العجز ..عله لا يجده قد سبقه إلى الغرفة الأخرى .

" حسنا إني قادم" .

في غرفة الشاب تتسارع عجلة الموت في الإندفاع نحوه . العرق يغمر جبهة الطبيب .وصوت الممرض يخترق أذنه " الفتاة ..."

زفرة حارة من صدره تنطلق مع ساقيه لغرفة الفتاة . يكاد يرى جراب الحياة يغلق . يحاول ان يمد يده ليجعله مفتوحًا قليلا .

= الشا...

- اللعنة .

يندفع نحو غرفة الشاب وقبل ان يمد يده " إئتوا بالفتاة جوراه".

بآلية من لا يرى سوى ...نوبات عبث قلبية .. إشارات مخ كهربية مرسومة على حائل صغير .. يعود بكله إلى الفتى ولا يشعر بالفتاة التي يدلف حاملها الحديدي ليضعها بجوار الشاب ...

"وكأن العصافير ذهبت .. وتركت روضة عامرة في سكون يمتد بطول الأبد "

يتذكر جملة أستاذه التي كان يصف بها الموت دائما .. ليدرك بعد لحظات أن العصافير توقفت عن التغريد .... ولكنها هذه المرة ما زالت هنا...

.. يجمد للحظات أمام الفتى والفتاة مستقري الأنفاس الراقدين كملائكة .. ينظر إلى مساعدته في وجوم ويغادر حالتيه مستقرتين .. عادة في مثل هذا الموقف يشعر برضا منقذ كوني عن نفسه .. ولكنه هذه المرة موقن أن لا فضل له في الأمر .


(4)

يقتربان من امتداد جسديهما المتمددان بلا حراك على أسرتهما .. غارقان في غيبوبة يتضاءل إلى جوارها وعي أبيهما وأمهما المعتصرين بآلام الفقد .. يتقاذفهما حنين ونفور يتنازع نفسيهما .. تقترب من ولدها لتمسح على شعره هابطة بكفها على وجهه نابت اللحية الناطقة بفتى يستقبل الرجولة تهبط على عنقه نافرة العضلات برغم الغيبوبة فتتذكر أيام كانت تلك العنق بضة ناعمة تشبعها تقبيلا منغمس بضحكات صغيرها الفرحة .. يميل على طفلته الفتاة التي يأبى خياله تشبيهها بالأميرة النائمة في غيبوبتها يود أن يفعل كما كان .. أن يحتضن جسدها الضئيل ويداعب مقدمة أنفها لتفتح عينيها باسمة كما كانت .. تصده أحافير الأنوثة النافرة بتضاريس جسدها واضعة بعض الإشارت الحمراء .. بعض العلامات التحذيرية .. لتقتنص منه كامل الحرية في التعامل مع جسدها التي كان يمارسها قبل أعوام مضت .

حين زفوا إليها بشرى جنينتها الفتاة .. شعرت بالفرحة تصب في أعماقها وسط آلام المخاض ومحاولات جنينها الآخر للخروج .. وحين خرج .. زفوا إليها بشرى جنينها الولد .. فشعرت تلك المرة بالنصر .. بأنوثتها تكمل ما نقص منها من ذكورة في جنينها .. حين زفوا إليه بشرى الفتاة .. شعر بحنانه المختنق بذكورته يتمرد فرحا بفتاة سيمارس معها ما حظر عليه منذ تصلب جفاف الرجولة على ملامحه وأفعاله .. ومع بشرى الولد شعر بأمله يمتد عمرا إلى جوار عمره .. وببعض ما إندثر من أحلام يعود ليطالب بحق في الحياة .

تنتزعهما أصوات أجهزة مراقبة النبض وإشارات المخ المعلقة بجسد الفتى المتوترة للحظات تستقر بعدها على خط مستقيم واصل بين الموت والحياة .. مشدوهان يقفان أمام جثة الفتى بينما تعود خلجات الوعي تصب على ملامح الفتاة .


*******************

تملك القصة لغتها الخاصة التي تكمل بنء العالمين المتوازيين المرسومة تفصيلاتهما بدقة متناهية ... العالم الطبيعي ..واللعنة التي أصابت الفتى والفتاة.

لغة هادئة تتراوح بين الحكي والتقرير ...بصيغة مضارعة لتحريك الاحداث التي تسير في خطين متوازيين لا في عالمه ...تحمل الكثير من الجمل التصويرية التي رغم ثقلها البادي إلا انها تناسب ذلك الجو الأسطوري الغامض الذي تحسه منذ المفتتح.

ترتفع لغة الحوار في المشاهد التي تدور أحداثها في عالم اللعنة ...وتبدو عادية في العالم الواقعي .... يصيغ جمل ذات بعد فلسفي مثل تعبيره عن الموت ...أو انتظار الطعام ...ويرسم ملامح نفسية الأب والأم واحساسيهما بطفليهما بدقة تثير الدهشة .

قدم من خلال القصة علاقة بين ضدين بكل تجلياتها الذكر والانثى والخير والشر والموت والحياة والحب والكراهية والفناء والبقاء ...متعمدا أن تبقى تلك الاضداد شديدة الوضوح ليس فقط من خلال المقاطع المتقاطعة للعالمين المتوازيين ولكن أيضا من خلال المقطع الواحد سواء في علاقة الفتى والفتاة في عالميهما الحقيقي وبعد اللعنة أو في الحدث الذي يدور حوله المقطع.

التفاصيل الكثيرة المنتشرة على طول القصة جعلتها متشعبة بطريقة مرهقة على ذهن المتلقي خصوصا مع تضمين الجملة الواحدة أكثر من معلومة ومع عدم مباشرة الأحداث نظرا لطريقة المعالجة التي قدم بها القصة ... قد يقدم ذلك على أنه عيب ..ولكني أراه خطوة في التطور لديه أن تبنى القصةعلى عدة مستويات للتفسير لكل منها مفاتيحها الموجودة داخل النص.

يتميز وليد دائما بتقديم شكل للعلاقات الانسانية ذات أبعاد جديدة ربما لانه يتعاطاها من زوايا غير مستهلكة وبمعالجة تجعلها مثيرة للتفكير.

كما أن تسلسل السرد بدا جيدا جدا فيما عدا استباق مشهد وفاة الفتى ...قبل المشهد المقابل ليه في اللعنة ... فغامت نقطة النور وسببت ارتباك يجعل القاريء يعيد القراءة مرة أخرى عله يجد بداية الخيط ليص إلى نهايته.

تجبرك هذه القصة على إعادة قراءتها ربا لفهمها أو لمجرد الاستمتاع بالجمل المحبوكة الصنع وربما للبحث عن تلك المعاني المختفيه وراء الأحداث التي تبدو للوهلة الاولى غير منطقية ...المهم ان تستعيد قراءتها.

* ملحوظة هذا جزء من القصة وليست القصة كلها ...

Sunday, October 21, 2007

مساحة للدهشة

ما أعنيه بالتحديد هو إننا عندما نقرأ فإن ما يهمنا بالأكثر هو مقدار المتعة المتولدة عن ذلك، ولا يشغلنا موضوع المعنى العميق أو ما وراء الشكل كثيرا. وإن كنت أتفق مع ذلك في ضرورة جمال الشكل الظاهري للعمل الفني، ولكن هناك سؤال ما هو تعريف هذا الجمال ، ما هي مظاهره؟
لا توجد عندي إجابة على هذه الأسئلة ، وفي رأيي أنه لا توجد إجابات محددة، حتى وإن حاولنا أن نبني هذه الآراء على أساس التفضيلات الجمالية لجمهور واسع من الناس؛ فهناك دائما من سيخرج عليك بنظرية عن ثقافة وذوق النخبة الذي يميل للتجريد والتأمل وذوق العامة الذي يميل للحسية و المباشرة.
لذلك لكي أحدد كلامي فأقرر أن قوة العمل الأدبي تنبع من شيئين (إحكام البنية والصياغة- والمعنى المختفي وراء النص)وكما قلت من قبل إنني شخصيا لا أستطيع أن أدعي أني حكم عدل في أي من تلكما النقطتين.. لذلك فكل ما أستطيع القيام به في أي من المقالات القادمة أن أتكلم عن ذوقي الشخصي.

عن "الصياغة والمعني" عند "محمد المخزنجي" أتحدث اليوم.

أحب أن أبدأ بداية ناعمة بعض الشيء؛ فأتكلم عن بداية معرفتي بالكاتب.
لم أكن أتذكره عندما وجدت أول مجموعة أشتريها له"أوتار الماء" نظرت للاسم وفكرت "أنا أعرف هذا الشخص، ولكن متى.. أين؟" ثم تذكرت بعد قراءتي مراسل مجلة" العربي" الكويتية الذي يطوف العالم يتأمل ويبدع استطلاعات متفردة.. ذهبت معه إلى الصين لأشاهد "ملاكمة الظلال البطيئة" ومرة "لصلالة"في جنوب عمان لأشاهد الخريف فيهاعلى حافة المحيط الهندي، ومرة صعدنا للتبت لنشاهد عملية إخراج الألم بالصوت.
كل تلك الخبرة المرئية بالإضافة لدراسته وممارسته للطب النفسي. هوايته الأثيرة في التأمل تجعلني أضع كلمة بين كلمتي"الصياغة والمعنى" هي كلمة "العاطفة" وما أعنيه بها هي ترجمة الكلمة الإنجليزية
Passion
وليست العاطفة بمعناها الرومانسي، وإن كان موجودا-بطبيعة الحال- في بعض قصصه.
و"العاطفة" عندي هي مكون رئيسي في أي قصة لأي كاتب، ولا يمكنني إدارجها في مكونات"الصياغة" وكذلك هي لا تدخل في المعنى العميق، بل هي فوق النص ممتزجة به في آن.. هي الموسيقى السارية فيه. نعم تؤثر عليه الصياغة عن طريق اللغة المستخدمة وتكنيك الحكي وإيقاعه، ولكن بالرغم من كل ذلك تبقى شيء من الصعب الإمساك به، والأكثر من ذلك يختلف تلقيها من شخص لآخر اختلافا قد يكون كليا.
عندما ندلف إلى عالم"المخزنجي" فأول ما يواجهنا هي كلمات"الدهشة والتأمل والبساطة" ثم بمزيد من القراءة نتأكد من شيئين"تفرد الصوت ومساحة الكتابة"ولكي لا أطيل في الكلام النظري أبدأ بالأمثلة العملية.
أبدأ بالاختيار من مجموعته "أوتار الماء" وربما هي أشهر مجموعاته لطباعتها في مكتبة الأسرة، وفوزها بجائزة مسابقة "سوايرس".

"تلك الحياة الفاتنة"أول قصص المجموعة وأبلغ مثال لهذا الكلام.
بنية القصة غاية في البساطة هي عبارة عن خواطر في ذهن البطل تدور وهو في طريقه لزوجته الراقدة في المستشفى إثر عملية جراحية ليحضر لها بعض الثياب من البيت.تدور القصة في شكل"مونولوج-ديالوج" يوجه لها خطابه ويستحضرها معه يود أن يقولها لها خواطره وهو يعرف رد فعلها ، استخدم الكاتب تلك التقنية في قصته الرائعة"رجال" من مجموعة"البستان"، ولكن بشكل مختلف قليلا.. المهم أول عنصر نجده واضحا"سهولة البنية"ومعه نكتشف اللغة. واللغة موضوع كبير جدا ومتشعب، ربما لحد لن يصدقه القاريء، ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أتحدث عن لغة هذه القصة تحديدا دون محاولة للحديث عن اللغة عند الكاتب-وهي تستحق حديث مفصل.
يستخدم الكاتب هنا اللغة بوعي من أول جملة من أجل ترسيخ العنصر الخفي في القصة"العاطفة".اللغة مليئة بالتشبيهات وكلمات العاطفة التي تدخلك في الحالة النفسية المرادة.جملة البداية هي"لك أنت أيتها المسالمة أحكي هذه المرة" وبعد
ذلك نكتشف أنها غير موجودة ومن هنا ينشأ"المونولوج- الديالوج" الذي تكلمنا عنه، ولكن فلنتأمل اللغة بعد ذلك.
"ويالتجسد الإحساس بغيابك في فراغ البيت. يالتلك الظلال المفعمة بالشجون التي يصنعها شيش النوافذ التي تركتها مغلقة. يالجفاف الأكواب والحوض وصمت البيت دونك..؟أما أشياؤك الخاصة فإنني لم أكن أتخيل أن تكون الأشياء قادرة على الإيحاء إلى هذا الحد العاصر للقلوب"
كل هذه العاطفة والشجن جديرين بالمدرسة الرومانسية القديمة باتكاءها على اللغة وإثارة العاطفة والإحساس بالشجن، وأعتقد أننا كلنا نذكر"صخرة الملتقى"، ولكن هنا الموضوع يختلف.. ففي الفقرة التالية مباشرة يصل لهدفه"فماذا لو أنك ذهبت وتركت لي كل هذه الأشياء التي تشع نظافة والتي نامت مطوية ومرتبة برهافة ودقة تحت أنامالك. الموت شيء مرعب، ليس في حد ذاته، ولكن بما يتركه للأحياء من بقايا حياة الراحلين "
هذا ما كنت أقصده"التأمل والدهشة"هو استفاد من الرومانسية بتوحيد مشاعرك معه في تلك اللحظة وأوقفك معه داخل الشقة تتأملها ثم أمام الدولاب للتتخيل شكل المناشف والثياب المرتبة وتتأملها معه ثم يقفز بك من التأمل للحظة الاكتشاف المدهش.
وما إن نكمل باقي القصة حتى نعثر على باقي العناصر التي تكلمنا عنها"تفرد الصوت ومساحة الكتابة"فهو يخرج بعد ذلك من الشقة. يركب الميكروباص الذي يمر من أمام السفارة المكسيكية. يصف الشارع ومبنى السفارة برقة المتأمل المستمتع بالجمال ولا ينسى ديالوجه معها"أنت تحبين ذلك الشارع من شوارع المعادي".ثم يلقي مفاجأة النهاية التي يحددها بالـ"الرؤية" وليست الـ"الرؤيا" الأولى بمعنى المشاهدة والثانية بمعنى الحلم المستقبلي.
يحكي قصة القط الذي كان في الشارع يلاعب أحد الفراشات فدهسته عجلات الميكروباص المسرع. هنا يشاهد القط وهو يصير أثنين، أحدهما يهرب لحديقة السفارة والآخر تدهسه عجلات السيارة
.
يصل لأعلى درجات العاطفة حين يقول"أعرف يا سكني أن أحدا لن يصدقني مثلك. وأعرف أن تصديقك لي ليس مماشاة مجنون تحبينه، لكنه تصديق شريكك في الإيمان بأن الكون من حولنا مليء بالمدهشات التي لم تعرف قوانينها فنسميها"معجزات"أو "خوارق". وأعرف أنك طيبة إلى درجة الفرح بكل معجزة شجية"ولكنه في نفس الوقت يكون قد أدخلك في "منطقته في الكتابة"تلك المنطقة المتمردة على غرور العلوم التطبيقية وادعاؤها بالإحاطة بكل شيء علما.
منطقة التمرد على قسوة العالم وتبلد المشاعر. فيعطيها تفسيرين، كلاهما أجمل من الآخر ويوضحان الكاتب تماما.
"بقوانين عالمنا المحسوس، يا سكني، اندفعت القطة فدهستها عجلات السيارة، لكنها بحسابات الروح وبما كانت فيه من فرح اللعب، ثم مواجهة المباغتة الخئون للخطر الداهم، قفزت قفزة الحياة في وجه الموت.. فنجت "
هنا الميكروباص يمثل قسوة ذلك العالم في مواجهة القط الضعيف. المواجهة محسومة مسبقا، ولكن بحسابات الروح نحن لا نريد أن يموت القط.. لا نريد أن تموت زوجته الحبيبة أمام المرض الداهم.. لا نحب أن تدهس الحياة هؤلاء الناس الطيبين الذين نحبهم-كما يقول في نهاية القصة، فيوجد لهم مخرجا يناسب الحالة التي خلقها من أول كلمة في القصة" لك أنت أيتها المسالمة" هو يتكلم عن هؤلاء الغير مسلحين في معركتهم مع الحياة، ولكن قد يكون التعاطف غير كافي لتفسير الموقف فيضع تفسير آخر يمنطق القصة، وفي نفس الوقت يدخلها في مساحته الكتابية الأهم"التمرد على"غرور العلم"ويستخدم في ذلك العلم أيضا فيقول
"ولو شئت تفسيرا آخر، لحدثتك في ضوء نسيبة الزمان ودفء الراصد، فبينما كنت أنا الدافيء بكل ما يعتلج داخلي من تحنن عليك، وحيث أن الزمن يتلكأ أمام راصد دافيء، فقد لمحت اللحظتين معا. نعم يا سكني، لمحت اللحظتين، بل لمحت لحظة النجاة قبل الموت.. وهذا جائز عندما تبرق أذهاننا بسرعة تفوق سرعة الضوء، فنرى العلل قبل معلولاتها.. نرى النتائج قبل الأسباب"
هو هنا لا يستخدم النسبية فقط بل سنجد مبدأ عدم التأكد لهايزنبرج موجود بقوة -وهو من أهم مباديء نظرية الكم-فهو المبدأ الذي يتيح للجزيئات أن توجد في مكانين في آن واحد في غياب الراصد، وكذلك هو المبدأ الذي ألغى فكرة"السببية" التي بني عليها العلم الحديث، السبيبة تقول أنه إذا وجد جسم في النقطة "س" وعلمت سرعته والعوامل المؤثرة عليه، وعند عدم تدخل قوى خارجية، فإننا يمكننا التنبؤ بميعاد وصوله للنقطة"ص" هذا المبدأ ألغى تلك الفكرة ببساطة لأننا لا نعرف أين الجزيء بالضبط.بالطبع "هايزنبرج"كان يتكلم عن الجزيئات الذرية وما دونها، ولكن أتى أعتراض مشهور من عالم كبير هو "شرودنجر" بأن قال بما إن الكرات والقطط والبشر تتكون من نفس هذه الجزيئات، فلماذا لا نجد هذا الكلام صحيحا في حالتها؟ وضرب مثالا شهيرا عرف بـ"قطة شرودنجر" وهو ما رُدَ عليه بعدها بموضوع التداخل في حركة الجزيئات أو "التآثر"أو "الشواش". المهم لست بصدد التفصيل العلمي في تلك النقطة، ولكن عندما وجدت هذه القصة انتابني فرحة غير عادية بهذا المزج بين العاطفة والعلم والبساطة والتمرد على الواقع والبحث عن ثقوب للإفلات منه.. يؤمن الكاتب وأؤمن أنا أنها موجودة.
كل هذا المزيج صنع تفرد الصوت الخاص به.. فهو يمزج كل هذا ويسيطر عليه ويوجهه حيث يشاء ليصل لنقطة النهاية
"يا سكني، كثير من هؤلاء الناس الذين نراهم يمضون من حولنا في الحياة، دهستهم الحياة من قبل، مرة أومرات. لكنهم انتفضوا ليواصلوا المسير، فالحياة طيبة برغم كل شيء، وبرغم أنها في مثل تلك الحالات تغدو مثقلة بذكرى اللحظات الأليمة.. تغدو مفعمة بالشجن.. والشجن حزن جليل.. والجلال أعلى مراتب الفتنة.. يا سكني" لاحظ معي كم مرة تكررت كلمة "الحياة" هي لم تتكرر اعتباطا، فلكلمات هنا موزونة بميزان الذهب.. هنا هو يتكلم في جهتين فمن ناحية هو يبعث الأمل في نفس زوجته المتألمة التي انتزعوا رحمها توا وكانت على شفا الموت.يقول لها أنها ستقوم وتواصل المسير وإن بقيت تلك الذكرى الأليمة. يقول لها أن ذلك الشجن ليس عيبا بل هو أعلى مراتب الفتنة.. وهنا نفهم سر روعة ذلك النداء الذي يخاطبها به منذ بداية القصة ويكرره"يا سكني" حيث يقول في أول فقرات القصة"وأنك لم تكوني إلا قدرا محسوبا بدقة ليناسبني" وفي نهايتها توحد العاطفة بينهما عن طريق هذا النداء، وفي نفس الوقت الخطاب يتكلم عن الآخرين الذين أنت واحد منهم، حين تتذكر المرات التي دهستك فيها الحياة فتتوحد معهما في الحالة.

ونلتقي مع نفس الكاتب في المرة القادمة إن كان في العمر بقية.

Saturday, October 20, 2007

اصطباحنا فل بإذن واحد أحد

لأنه سيكون الأدب قد وصل لقمة الانحدار عندما يبدأ أمثالي في النقد
باسم
هذا وقد قامت هدى بأكبر أخطاء حياتها عندما وافقت على إدخالي هذه المدونة