Wednesday, November 5, 2008

همس الريح


ونفضت يدي من الشغل بعدما نطقت بعبارتها المتعجرفة .. اذهب لغسل يديك قبل أن تبدأ العمل.. تركت لها الباب الذي نزعته من إطاره وغادرت .. بعد أن قلت لها أني نجار ولست طباخ تخاف على طعامها من قذارة يديه.
يتثاءبون جميعا زوجة هرمة وسبعة أبناء رجال ونساء وست وعشرون حفيدا لا يجمعهم في حجرة واحدة إلا يوم عيد أو إفطار بأحد أيام رمضان.. ليتمتم الحفيد الذي لم يتجاوز الخامسة بعد: حكيت لنا هذه الحكاية مائة مرة يا جدي..
تغيم نظراته للحظات .. حقا ؟!!.. إذن فلتعلم أني لم أقل لها أني نجار ولست طباخ.. كان كل ما فعلت أني نفضت يدي من العمل .. لملمت عدتي .. وانصرفت صامتا .
*** **** ***
ذهبت كثير من متع الحياة بعد أن قبض على حافة الثمانين بأصابعه النحيلة المهزوزة، فان سألته أيها بقي لشردت عينيه قليلا في تفاصيل وجهك إلا عينيك وتمتم: عندما أجتمع بهم جميعا على طعام..
لن تسأله من هم، ستشعر من طريقة نطقه للكلمات بأنه يتحدث عما لا يليق بك أن تجهله وستفضل ألا تخيب ظنه في فطنتك، قد يستمر جهلك المتواري حتى النهاية.. إلا إذا دعتك صدفة إلى مائدة طعامه يوم عيد أو موسم، حينها وعند جلوسك وسط هذا العدد الضخم من الأبناء والأحفاد ، سينتابك شعور مختلف .. غامض ..ضبابي.. مخبوء في ذاكرتك الموروثة من زمن أسلاف مندثرين.. حين كانت القوة في العدد، والدفيء لا يطلب إلا من أجساد البشر.
يختلس النظرات إلى بناته الخمس ، غريب أن تلحظ الخجل في ابن الثمانين، تسلل البياض إلى رؤوس ثلاثة منهن.. بعد طول اعتياد يستطيع أن يتجاهل الزمن قليلا لينتقي اللحظة التي يفضل أن يراها مرة أخرى ، يراهن وقد عقصت ضفائرهن للخلف واسترسلت على ظهورهن ، ذاهبات معه إلى الري ليلا ، يساعدهن على النزول من على العربة الخشبية ، وينزع عن جسده الجلباب المشرب بطين الأرض ومائها ليعطي الماكينة بعض جرعات الماء قبل أن يديرها .. بتحط ف المكنة ميه ليه يابا؟! .. ينظر إلى صغراهن ويبتسم لدهشة المشاهدة الأولى ويتمتم بصوت يعلم أنها لن تسمعه وسط ضجيج الماكينة : عشان متشرقش .. هاشوف الميه واصلة آخر الأرض ولا لأ ..
يتركهن لوجلهن الخجل من الظهور ويذهب ، دقائق وتشير إحداهن إلى الجانب الآخر من الترعة ، حيث تظهر كتلة من اللهب تبتعد حتى آخر مدى أبصارهن لتقترب ثانية الى حافة الترعة ، تهمس كبراهن للأخريات: أبوشعليلة .
يثبتن للحظات قبل أن تنطلق صرخاتهن الفزعة في نفس اللحظة : يابا .. يستمر ذعرهن طوال ساعات دقائق قضاها هو بعيدا عنهن حتى تصيح أصغرهن: يابا .. يابا يابن الكلب ... مصحوبة بانهمار دموعها.
- بتضحك على ايه ؟! ..
ينزع نظراته عنهن الى طبق الطعام ليكمل ابتسامته قائلا : مفيش.. . أنا قايم أريح ف المندرة شوية ..
يلتفتون إليه باستغراب من رأى أحدهم يبعث دفينا من قبره : المندرة راحت وراحت أيامها مع الدار القديمة يابه ..
يثبت في مكانه للحظات ثم يشيح بيده في ضجر ، متمتما بعدد متلاحق من العبارات لم يلتقطوا أولها فلم يبذلوا جهدا في تتبع آخرها ، ليسود الصمت بعد انصرافه للحظات قبل أن يصلهم صوته عاليا من الغرفة المجاورة مخاطبا زوجته أمهم : لو أبوكي خليل عدا ابقي صحيني .
عندما يخلط أحدهم بين عالمي الأموات والأحياء يوقنون زوال الفاصل.. يقولون أن الميت يظل ضيفا على الأحياء أربعين ليلة حينها.. يكون فيها جثة تمشي على الأرض تودع الأحباب والأماكن ، وتعيد ما انقطع من الود بينها وبين من سبقوها إلى القبر ، هكذا لقنوهم صغارا وتشربت بها نفوسهم كبارا مع كل عزيز يفقد ، لذلك عندما أتى ذكر الشيخ خليل جده ، وتحدث عنه كما لو كان قائما بينهم جزعوا عليه وتذكروا من فقدوا من الأحبة .. لانت العيون بغرغرة الدمع، وسكن التوجس النفوس كلما عوى كلب أو تعالى نهيق حمار أو حتى أذن الديك فجرا.
ومرت الليلة حد تمام الأربعين فهدأ الجزع حتى أدركوا أن الليلة الأربعين قد ذهبت ولكن ما أثار هواجسهم لم يذهب معها ، يستيقظ فجرا كما يفعل منذ أربعين دورة للفصول ليتردد صوته في أرجاء المنزل الساكن أثناء اتجاهه للوضوء : الله .. الله.. الله...
أصبحوا يفزعون من صيحته تلك ليلا .. أصبحت عالية .. مجلجلة.. يتردد صداها في أرجاء المنزل الواسع .. توقظهم فزعين من نومهم .. ليعودوا إليه ضجرين ، بخطواته الهادئة يدخل ليجد الجميع قد اتخذوا أماكنهم على مائدة الإفطار: أخوك متخربش ليه يا إسماعيل ؟! .. مش هاتبطل قساوة ...
يلتفت إسماعيل إلى أخيه في وجوم متمتما بصوت خافت: أبوك عقله خف يا عابد.

****** **** ******
تتذاوب لحظاته ويذهب ملله وضجره حتى ليأنس بهمس الريح تحمل السكينة لتتخلل بها مسامه – يلاحظون جلسته المستكينة الثابتة لساعات دون أن يطرف له جفن – يهيم بعينيه في دروب حواف متصلة من اللحظات فيدرك من غاب عنه بالموت ويرى أبناؤه كل منهم جنينا ورضيعا وطفلا وغلاما وفتى وشابا ورجلا في ذات اللحظة ॥ يرقص قلبه لبسمة فدوى جنينه تتقافز من حولها سعاد وخديجة وشهد وكوثر .. تطفر عينيه بالدموع بعدها بلحظات لبكاء إسماعيل طفلا ممزق الملابس وشكواه من تكالب أطفال الحارة عليه.. تمتلئ نفسه بالرضا عندما ينظر إلى عابد مراقبا نفسه في ذات اللحظة بالركن الأقصى من الغرفة يشكو إلى الله شفقته على إسماعيل من أن يتحمل وحده هم البنات الخمس – لم يجدوا آخر الأمر تجنبا لخلطه ونسيانه أمام الأغراب إلا أن يجنبوه لقياهم ما استطاعوا – يدرك الأذان يتردد آتيا من كل الجهات فلا يدري له مصدرا ، وكلما التقطته خلايا جسده استجاب له – يرقبونه يصلي الظهر حينا ثلاث مرات وحينا خمس وحينا يصلي المغرب مرتين ، وقد يأتي يوم يليه لا يصلي فيه إلا فرضا واحدا – وحين ناجته الظلمة وأخبرته أنها نور خجل مستتر ، وألف التراب ورأى فيه ما رأى ، وتلاشت الألوان وتداخلت لتشكل أثير واحد ، واختلطت دموعه بابتسامته ، علم أن عليه أن يحث الخطو .. ففعل

12 comments:

حاجــ عيال ــات said...

قصتك جميلة ولكن رجاء اللون الأسود أرهقني عند القراءة
أرجو تخفيف حدة اللون

تحياتي وأتمنى لك التوفيق

وليد خطاب said...

حاجات.. شكرا .. ربنا يكرمك
غيرت الفونت واللون
انت تأمر

almasry said...

طيب انا نفسى أقرأها بس وقتى مش كافى لأنى مشغول لكن انا من أول ما شوفت نفضت يدها دى وانا حسيت ان فى ضرب نار فى الآخر



لكن هقرأها هقرأها .>........ بس مش تقولى لحد بقى

تحيـــــــــاتى


د/المصـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرى

م/ الحسيني لزومي said...

من اجل مصر
شارك في الحملة الشعبية للقيد بالجداول الانتخابية وادعو غيرك
ضع بنر الحملة علي مدونتك
البنر موجود علي مدونتي
اذا كنت ترغب في وضعه علي مدونتك ارسل ميلك كي ارسل لك كود البنر
ارجو المعذرة للدخول بلا مقدمات لأني ادخل علي مئات المدونات يوميا

كلاكيت تانى وتانى said...

ارجو نشر الايفنت لديك على مدونتك والدعوة لحضور الحفل بين كل المدونين وذلك لتأييد المدونات المشاركات فالحدث ويشرفنا حضورك
حفل توقيع العدد الثالث من سلسلة مدونات مصرية للجيب
كتاب "أنا انثى " ..لمجموعة من المدونات النساء

أول كتاب يناقش اهتمامات المرأة بقلم مجموعة من النساء ويطرح القضايا للنقاش

ضيفة شرف الحفل ..(غادة عبد العال ) صاحبة مدونة ..عاوزة أتجوز..والتي صدر لها كتاب بنفس العنوان عن دار الشروق

ومن المشاركات في كتاب ..أنا أنثى
نوارة نجم
اسر ياسر
ايناس لطفى
نرمين البحطيطى
شمس الدين
د . رشا عبد الرازق
بيلا شريف
مكسوفة
بسمة عبد الباسط
مريم الغنيمى
إيمان نادى
زهراء امير بسام
آية الفقى
مروة السيد
أميرة محمد محمد محمد
فاتيما
مذكرات عانس
نرمين البحطيطى
سلمى أنور
انجى سمراء النيل
سارة ابراهيم على
سمر مجدى
مروة النجار
شيماء حسن
نسرين عبد النعيم
د.مرام محمود
ايناس لطفى
نجلاء الشربينى
محاسن

يصاحب الحفل عرض فيلم قصير و==================================
المكان
المركز الثقافى الدولى
17 ش السد العالى ميدان فينى الدقى
الشارع المقابل لشيراتون الجزيرة
اقرب محطة مترو انفاق محطة الاوبرا
الزمان
يوم 3 مارس الساعه 4.30 عصرا

احلام جوليا said...

روعة فعلا روعة اول مرة اقرأ لك بس عجبني التعبيرات والكلمات انت اكيد من الريف كلامك عن الارض والماكينة كانك شفتيه ولمستيه بايدك بجد روعة قصه فيها احساس عالي بس اعاتبك على الاسم القاسي لها جنة المجانين كبار السن اباءنا واجدادنا ليسوا مجانين بالعكس هم العقلاء الذين يعيشون بالماضي الجميل ماضيهم والذي لايعني لنا شيئا ويوما من الايام سنكون مثلهم وصدقيني ستجري الايام بسرعة لنصبح مثلهم ننتظر الموت وكانه صديقا وحليفا ياخذنا على جناحه لنلاقي احبائنا وازاماننا الماضية

احلام جوليا said...

اعتذر على عتابي فقد اكتشفت بعد جهلي بان اسم جنة المجانين هو اسم المدونة وليس البوست فسامحوني فهي اول مرة لي عندكم وتقبلوني قارءة لكم واياكان كاتب البوس من الثلاثة المذكورين اقول له بوست رائع داوم بامتاعنا بكتاباتك

عماد خلاف said...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قصة جميلة ورائعة ومتميزة وتؤكد انا لديكى حس حالى ووصف رائع الى امام دائما
ارجو التواصل
انا لدى مدونتين واحدة للقصة القصيرة والتانية للمقالات بحلم ببكرة
http://emadkhalaff.blogspot.com/

هاني مهران said...

قصة هايلة



احييك عليها



اسلوب رائع



تقبل مرورى

hasona said...

السلام عليكم

كل سنة وانت بخير
وكل سنة وجميع أحبابك بخير وصحة وسعادة
وكل سنة وكل المسلمين علي شريعة الله وسنة الحبيب المصطفي رضي الله عنه وأرضاه

وان شاء الله نستفيد من رمضان بكل السبل
ونخرج منه أفضل مما ولجنا به
يا رب أعنا علي القيام والصيام والصلاة
ووفقنا لما فيه الخير للجميع يا رحيم يا كريم

وارزقنا العفاف والرضا - والمحبة واهدينا يا عظيم

وأعنا علي القيام والصيام والصلاة والارتقاءالي جنة الفردوس

واجعلها لنا ميراث خير وسعادة

واجعلنا من عتقاءك في هذا الشهر يا معطي يا وهاب

وارزقنا حلاوة القرآن و حسن تلاوته
وتدبر معانيه وفهمها علي النحو الصحيح
ورطب ألسنتنا بذكرك يا الله

عايز أقول اننا في أيام مباركة ويجب استثمارها في الخير والتقرب من الله

فارس الجبالى said...

السلام عليكم

هناك ثلاثة اسماء على هذه المدونة

رجاء هلا وضحتم الرسالةالمنشورة لمن من خلال توقيع الكاتب نهاية كل رسالة
أما عن هذه القصة فهى تحتوى على قدرة سردية كبيرة وخاصة
وزخم فنى جيد

ترى فى هذه المدونة من الكاتب ومن الناقد
تحيتى

أفلح اليعربي said...

أخي وليد تحية طيبة

قرأة قصتك ، أعجبتني الحبكة
وترتيب الأفكار

دمت متألقا